العودة إلى نقطة الصفر: لماذا اخترنا أن نبدأ من جديد؟

16.6.2025
العودة إلى نقطة الصفر: لماذا اخترنا أن نبدأ من جديد؟

من العمارة التقليدية إلى النمذجة المرنة

قبل أن تنطلق فكرة كن، قضينا سنوات في بناء "عريقات معماريون"، مكتب تصميم نفّذ مشاريع مميزة على مدار ثلاثة عشر عامًا في مختلف أنحاء المنطقة العربية. كنا نحرص على أن يحمل كل مشروع طابعه الخاص، مصممًا بعناية واهتمام بالتفاصيل، مبنيًا على فهم عميق للتصميم وسياقه المكاني والإنساني. ومع توسع أعمالنا، بدأت تظهر تساؤلات جوهرية: كيف يمكن لهذا النموذج أن ينمو ويتطور؟ وهل من الممكن إعادة صياغة تجربة التصميم والبناء لتكون أكثر ذكاءً، وسرعة، ومرونة، دون أن تفقد معناها وعمقها؟

حدود النمو التقليدي

في عالم العمارة، النمو غالبًا ما يعني زيادة عدد المشاريع، وعدد الأفراد، وتعقيد العمليات. ومع مرور الوقت، تصبح الإدارة هي المحرك الأساسي، على حساب الإبداع. تتقلص مساحة التجريب، وتفقد العملية المعمارية قدرتها على التجدد. كنا نعمل وفق منهجية تعتمد على تفصيل كل مشروع بناءً على معطياته الخاصة، وهو ما جعل النموذج غير قابل للتعلم والتطوير المنهجي. ومع ازدياد المشاريع، تكررت تحديات الاعتماد على كثافة الموارد البشرية وصعوبة التوسع، وتكرار نقاط الضعف ذاتها.

وهنا قررنا التوقف. لا لإجراء تحسينات طفيفة، بل للعودة إلى نقطة البداية، وبناء نموذج جديد من الأساس.

إعادة التفكير من الجذور

بدأنا نطرح الأسئلة من جديد: كيف نُصمّم؟ كيف نُنفّذ؟ ما الشكل الأمثل لتجربة سكنية حديثة يمكن تكرارها، تطويرها، وتخصيصها — دون أن تفقد طابعها الإنساني؟

تحوّلنا من التعامل مع كل منزل كمشروع منفصل إلى التعامل معه كمنتج مرن، يمكن تطويره وتخصيصه ضمن نظام متكامل. لم نعد نفكر في تقديم "خدمة معمارية" فقط، بل في بناء "منصة تصميم وتنفيذ"، تبدأ من الفكرة، وتمر عبر أدوات رقمية ذكية، وتنتهي بتجربة عميل شفافة وقابلة للتكرار دون التنازل عن الجودة أو التفرد.

التحدي الأكبر: التغيير من الداخل

لم تكن الرحلة بسيطة. التحوّل من نموذج تقليدي إلى آخر أكثر ابتكارًا جاء بطبيعة الحال محمّلًا بتحديات كبيرة، خاصة في قطاع معقّد مثل التصميم والبناء. التغيير لم يكن مجرد تحديث للأدوات، بل مسّ جذور طريقة التفكير، وهيكل العمل، والوتيرة التي نتحرّك بها.

كان علينا الانتقال من مسارات مألوفة إلى ثقافة أكثر مرونة، تعتمد على التجريب، والتعلّم السريع، واتخاذ القرار تحت ظروف متغيّرة. وهذا التغيير لم يحدث في بيئة معزولة أو نظرية، بل على أرض الواقع، مع عملاء حقيقيين، واحتياجات فعلية، وقرارات طويلة الأثر. في هذا القطاع، كل تجربة لها تكلفة، وكل خطوة تتطلب ثقة لا تُمنح بسهولة.

لكن التحدي الأكبر لم يكن في تطوير الحلول التقنية، بل في التحوّل الثقافي داخل الفريق. الانتقال من بيئة معمارية تقليدية إلى عقلية شركة ناشئة فرض علينا إعادة تشكيل كثير من المفاهيم التي كنا نعتبرها ثابتة. لم يكن الجميع مستعدًا لهذا التغيير السريع، وكمؤسسة، كان علينا أن نعيد تعريف أنفسنا، وأن نتعلم كيف نتحرّك بمرونة، ونواجه التحديات كفريق يتعلّم باستمرار، لا كمجموعة تكرّر ما تعرفه.

بناء الثقة خطوة بخطوة

التحول لم يأتِ دفعة واحدة، بل بدأ من لحظات بسيطة. لحظات انسجام مع شريحة صغيرة من العملاء الذين لمسوا الفارق، ووجدوا أننا نتحدث لغتهم ونفهم احتياجاتهم. كانوا يعانون من مشاكل متكررة: تأخّر في التنفيذ، غموض في الأسعار، غياب في المتابعة. لكن ما ميّزهم هو استعدادهم لتجربة حل مختلف. من هنا بدأت علاقتنا الحقيقية مع السوق. لم نحاول إقناعهم بالتقنية كفكرة، بل قدّمنا أدوات وتجارب ملموسة: منصة تصميم تفاعلية، تتبع لحظي لسير المشروع، شفافية كاملة في الأسعار، وتجربة تُشعر العميل بأنه شريك حقيقي في صناعة بيته.لم نضف طبقة رقمية على البناء، بل بنينا نظامًا متكاملًا حول التجربة ؛ نظام يسمح بالتكرار دون تكرار الأخطاء، ويتيح المرونة دون المساس بالجودة.

من خلال هذا التفاعل الحقيقي، بدأ يتكوّن لدينا فهم أعمق لطبيعة هذا القطاع. التقنية مهمة اليوم في قطاعنا ولكن ما يصنع الفارق هو بناء الثقة، تقديم نتائج واضحة، والالتزام في التنفيذ. وهنا، بدأت فرص النمو المستدام تتّسع تدريجيًا بثبات وبثقة أكبر في الاتجاه الذي نسير فيه.

قوة البدء من الصفر

اختيار البدء من الصفر لم يكن قرارًا سهلًا، لكنه كان خطوة ضرورية لمواجهة التحديات المتراكمة في قطاع التصميم والبناء، وبناء نموذج أكثر تكاملًا وفعالية. منذ اتخاذ هذا القرار، بدأنا عملية طويلة من التجريب والتقييم، اختبرنا خلالها العديد من الفرضيات، وراجعنا نتائجها في سياقات واقعية مختلفة. هذه التجارب لم تكن مجرد محاولات تقنية، بل أدوات لفهم أعمق لحاجات السوق، وحدود التوقعات، وإمكانات التطوير الحقيقي. هذا الفهم التراكمي شكّل الأساس الذي نقف عليه اليوم قاعدة صلبة نبني فوقها نموذجًا أكثر نضجًا، ونطوّر من خلالها أدوات وخدمات تستجيب لتغيرات السوق ومرتبطة باحتياجات المستخدم الفعلية. ومن هذا المنطلق، نعمل حاليًا على تطوير مجموعة جديدة من المنتجات والخدمات بدءًا من تصاميم منازل أكثر تنوعًا ومرونة إلى أنظمة مكمّلة تعزز جودة الحياة، وتقنيات متقدمة تعيد تعريف العلاقة بين المستخدم والمسكن.

المسار ما زال طويلًا، لكنه اليوم أكثر وضوحًا، وأكثر اتساقًا مع ما نطمح إليه. ومع كل خطوة، نقترب من تحقيق تجربة سكنية أكثر ذكاءً، وأكثر إنسانية، تستحقها هذه المنطقة، ويستحقها من يختار أن يبني حياته من خلالها.